ثم جاء بعد هؤلاء طبقة أخرى، من مشاهيرهم:
1- عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمانالأنصاري: كان جده قتادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدراً وأحداً والمشاهد، وأصيبت عينه يوم أحد، فسقطت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعادت أحسن عينيه وأحدّهما، وأبوه عمر روى المغازي والأخبار عن أبيه، ورواها عن عمر ابنه عاصم، قال فيه ابن سعد: كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير، أمره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق، ويحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، ففعل. وكان من المصادر المهمة التي اعتمد عليها ابن إسحاق، والواقدي، توفي سنة عشرين ومائة، وقيل : تسع وعشرين ومائة.
2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري : جده الأعلى عمرو صحابي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، ليفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن والسنة. وجده محمد قيل: له رؤية، مات يوم الحرة، وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة، وواليها، وهو أول من دوَّن الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز أو من أوائلهم، فقد نشأ إذاً في بيت علم ورواية، وقد نقلت عن عبد الله أخبار كثيرة ذكرها ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، والطبري. توفي سنة خمس وثلاثين ومائة.
طبقة أخرى
ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى عاشت في العصر العباسي الأول، من أشهرهم:
1- موسى بن عقبة : مولى الزبيريين، والظاهر أنه استفاد من هذه الصلة، قال فيه الإمام مالك: "عليكم بمغازي ابن عقبة، فهي أصح المغازي". وكانت سيرته التي كتبها مختصرة موجزة وصل إلينا منها بعض مقتطفات، ينقل عنه ابن سعد والطبري بعضَ أخبار السيرة، وقد روى له البخاري في الصحيح، وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائة.
2- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي: وهو من أصل فارسي، كان جده يَسار من سبي "عين التمر" سباه خالد بن الوليد، وكان ولاؤه لقيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، فلذلك قيل له: المطَّلبي . ولد نحو سنة خمس وثمانين، لقي كثيراً من علماء المدينة وأخذ عنهم، قال فيه الإمام الشافعي: "من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق" وهو يعتبر ثقة في المغازي، لكنه مضعَّف في رواية الحديث، وجرحه بعض المحدثين، وأثنى عليه آخرون. ألف ابن إسحاق كتابه المغازي، وهو أقدم كتاب وصل إلينا في السيرة، ألَّفه للمهدي بأمر أبيه المنصور، جمع فيه تاريخ العالم منذ خلق الله آدم إلى زمنه، وقد طوَّل فيه فلم يرضه المنصور، وأمره باختصاره فاختصره، ولكن الكتاب جاء بعد هذا يفيض بالكثير مما لا يتصل بسيرة الرسول، ويعرض الكثير مما لا يؤيده دليل، ويفشو فيه الشعر المنحول، والخبر المفحش، والرواية المنكرة، هذا إلى سوقه على نهج لا يؤلف بين أجزائه نظام، وأيضاً فله أوهام - أغلاط - فيه كما سنبين بعض ذلك فيما يأتي. توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة، وقيل اثنتين وخمسين.
3- الواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني هاشم: كان الثاني بعد إسحاق في العلم بالمغازي والسير والتواريخ، وكان معاصره مع صغر سنه عنه، وقد لقي الكثيرين من الشيوخ، وروى عنهم، وكان كثير العلم بالتاريخ والحديث، وقد اختلف في تقديره المحدِّثون ما بين معدل ومجرِّح له، ويروى أنه اختلط في آخر عمره . قال فيه البخاري: "منكر الحديث" ولكنهم لا يطعنون في سعة علمه بالمغازي. قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: "إنه بصير بالمغازي" على حين قال فيه أيضاً "الواقدي يركب الأسانيد". عني الواقدي بالمغازي والسير بخاصة، والتاريخ الإسلامي بعامة، وكان لا يعرف كثيراً من أمور الجاهلية.
وقد كانت كتبه عمدة للمؤرخين من بعده، ونقلوا منها واقتبسوا، وللواقدي كتاب "التاريخ الكبير" مرتب على السنين، اقتبس منه الطبري في تاريخه كثيراً، وكتاب "الطبقات" ذكر فيه الصحابة والتابعين حسب طبقاتهم، ويظن أن كاتبه ابن سعد قد تأثر به في "طبقاته"، ولم يبق لنا من كتبه إلا كتاب "المغازي" وكان من أكبر المصادر التي اعتمد عليها الطبري في تاريخه، توفي ببغداد سنة سبع ومائتين وقيل تسع.
طبقة أخرى
ثم جاء بعد ذلك طبقة أخرى، من مشاهيرهم:
1- أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعَافِري: من مصر، وأصله من البصرة، وله كتاب في "أنساب حِمْير وملوكها" وكتاب في "شرح ما وقع في أشعار السيرة من الغريب" وله الكتاب الذي اشتهر به "السيرة" وهو مختصر لسيرة ابن إسحاق، مع بعض الزيادات، أو التعقبات والتصحيحات، ولئن كانت سيرة ابن إسحاق لم تصلنا بعينها فقد وصلتنا مهذبة على يد ابن هشام.
وقد تلقَّاها عن زياد بن عبد الله البكَّائي(1) (المتوفى سنة 182) عن ابن إسحاق وقد بين ابن هشام في المقدمة منهجه حيال سيرة ابن إسحاق فقال : "وأنا - إن شاء الله - مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولده، وأولادهم لأصلابهم: الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل-على هذه الجهة-للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه-لما ذكرت من الاختصار-، وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعضه لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ- إن شاء الله تعالى - ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به".
من أجل هذا نُسِيَ ابن إسحاق، وذُكر ابن هشام، فلم يعد يذكر هذا الكتاب في السيرة إلا مقروناً باسم ابن هشام، لا يكاد يذكر ابن إسحاق إلى جانبه، وهذا بالنسبة للمتأخرين، أما المتقدمون فلا يذكرون إلا ابن إسحاق، وكانت وفاة ابن هشام سنة ثماني عشرة ومائتين.
وقد شرح هذه السيرة شرحاً يدل على تبحُّر في العلم، وتضلُّع في علم اللغة والأدب والأخبار، الإمامُ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي، المولود سنة ثمان وخمسمائة والمتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، في كتابه القيم "الروض الأُنُف" وكان - رحمه الله - إلى جانب علمه معروفاً بالصلاح، والتقوى، والورع.
3- محمد بن سعد تلميذ الواقدي وكاتبه: يدوَّن له كتبه وأخباره، ومن أجل هذا لقب "بكاتب الواقدي" ولد بالبصرة سنة ثمان وستين ومائة، وآباؤه موال للحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، وأجلُّ كتبه "الطبقات الكبير" في ثمانية أجزاء، وقد خصَّص الجزء الأول والثاني من كتابه.
________________________________
(1)هو أبو محمد زياد بن عبد الله البكائي شيخ ابن هشام، روى عنه البخاري في كتاب الجهاد، وخرَّج له مسلم في مواضع من كتابه، وكفى بهما مزكِّيَيْن، وموثقين.
لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه، وخصَّص الأجزاء الستة الأخرى لأخبار الصحابة والتابعين مرتباً لهم على حسب الأمصار، ثم رتَّب علماء كل مصر حسب شهرتهم وزمنهم، وقد حظي ابن سعد بثناء بعض المحدِّثين، قال فيه الخطيب البغدادي : "محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه، فإنه يتحرَّى في كثير من رواياته" وهو أحد شيوخ المؤرخ الكبير البلاذري، وتوفي ببغداد سنة ثلاثين ومائتين.
وممن عرف في التأليف في المغازي من طبقة تلي هؤلاء :
سعد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن أبي أُحيحة، أبو عثمان البغدادي: ثقة ربما أخطأ، من العاشرة، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبيه يحيى بن سعيد بن أبان : "المحدِّث الثقة، وحدَّث عنه ابنه سعيد بن يحيى صاحب المغازي، وأحمد بن حنبل" وكانت وفاته سنة تسع وأربعين ومائتين.
موقع العرب وأقوامها
إن السيرة النبوية - على صاحبها الصلاة والسلام - عبارة في الحقيقة عن الرسالة التي حملها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع البشري، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة اللَّه. وإذن فلا يمكن إحضار صورتها الرائعة بتمامها إلا بعد المقارنة بين خلفيات هذه الرسالة وآثارها. ونظراً إلى ذلك نقدم فصلاً عن أقوام العرب وتطوراتها قبل الإِسلام، وعن الظروف التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم .
موقع العرب
العرب لغة الصحاري والقفار، والأرض المجدبة التي لا ماء فيها ولا نبات. وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب.
كما أطلق على قوم قطنوا تلك الأرض، واتخذوها موطناً لهم.
وجزيرة العرب يحدها غرباً البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وشرقاً الخليج العربي وجزء كبير من بلاد العراق الجنوبية، وجنوباً بحر العرب الذي هو امتداد لبحر الهند، وشمالاً بلاد الشام وجزء من بلاد العراق على اختلاف في بعض هذه الحدود، وتقدر مساحتها ما بين مليون ميل مربع إلى مليون وثلاثمائة ألف ميل مربع.
والجزيرة لها أهمية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والجغرافي، فأما باعتبار وضعها الداخلي فهي محاطة بالصحاري والرمال من كل جانب، ومن أجل هذا الوضع صارت الجزيرة حصناً منيعاً لا يسمح للأجانب أن يحتلوها ويبسطوا عليها سيطرتهم ونفوذهم. ولذلك نرى سكان الجزيرة أحراراً في جميع الشؤون منذ أقدم العصور، مع أنهم كانوا مجاورين لإِمبراطوريتين عظيمتين لم يكونوا يستطيعون دفع هجماتهما لولا هذا السد المنيع.
وأما بالنسبة إلى الخارج فإنها تقع بين القارات المعروفة في العالم القديم. وتلتقي بها براً وبحراً. فإن ناحيتها الشمالية الغربية باب للدخول في قارة أفريقية، وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقارة أوروبا، والناحية الشرقية تفتح أبواب العجم والشرق الأوسط والأدنى، وتفضي إلى الهند والصين، وكذلك تلتقي كل قارة بالجزيرة بحراً، وترسي سفنها وبواخرها على ميناء الجزيرة رأساً.
ولأجل هذا الوضع الجغرافي كان شمال الجزيرة وجنوبها مهبطاً للأمم ومركزاً لتبادل التجارة، والثقافة، والديانة، والفنون.
1- عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمانالأنصاري: كان جده قتادة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد بدراً وأحداً والمشاهد، وأصيبت عينه يوم أحد، فسقطت على وجنته، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعادت أحسن عينيه وأحدّهما، وأبوه عمر روى المغازي والأخبار عن أبيه، ورواها عن عمر ابنه عاصم، قال فيه ابن سعد: كان راوية للعلم، وله علم بالمغازي والسير، أمره عمر بن عبد العزيز أن يجلس في مسجد دمشق، ويحدث الناس بالمغازي ومناقب الصحابة، ففعل. وكان من المصادر المهمة التي اعتمد عليها ابن إسحاق، والواقدي، توفي سنة عشرين ومائة، وقيل : تسع وعشرين ومائة.
2- عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري : جده الأعلى عمرو صحابي، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، ليفقههم في الدين، ويعلمهم القرآن والسنة. وجده محمد قيل: له رؤية، مات يوم الحرة، وأبوه أبو بكر كان قاضي المدينة، وواليها، وهو أول من دوَّن الحديث بأمر عمر بن عبد العزيز أو من أوائلهم، فقد نشأ إذاً في بيت علم ورواية، وقد نقلت عن عبد الله أخبار كثيرة ذكرها ابن إسحاق، والواقدي، وابن سعد، والطبري. توفي سنة خمس وثلاثين ومائة.
طبقة أخرى
ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة أخرى عاشت في العصر العباسي الأول، من أشهرهم:
1- موسى بن عقبة : مولى الزبيريين، والظاهر أنه استفاد من هذه الصلة، قال فيه الإمام مالك: "عليكم بمغازي ابن عقبة، فهي أصح المغازي". وكانت سيرته التي كتبها مختصرة موجزة وصل إلينا منها بعض مقتطفات، ينقل عنه ابن سعد والطبري بعضَ أخبار السيرة، وقد روى له البخاري في الصحيح، وكانت وفاته سنة إحدى وأربعين ومائة.
2- محمد بن إسحاق بن يسار المطلبي: وهو من أصل فارسي، كان جده يَسار من سبي "عين التمر" سباه خالد بن الوليد، وكان ولاؤه لقيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، فلذلك قيل له: المطَّلبي . ولد نحو سنة خمس وثمانين، لقي كثيراً من علماء المدينة وأخذ عنهم، قال فيه الإمام الشافعي: "من أراد أن يتبحر في المغازي فهو عيال على محمد بن إسحاق" وهو يعتبر ثقة في المغازي، لكنه مضعَّف في رواية الحديث، وجرحه بعض المحدثين، وأثنى عليه آخرون. ألف ابن إسحاق كتابه المغازي، وهو أقدم كتاب وصل إلينا في السيرة، ألَّفه للمهدي بأمر أبيه المنصور، جمع فيه تاريخ العالم منذ خلق الله آدم إلى زمنه، وقد طوَّل فيه فلم يرضه المنصور، وأمره باختصاره فاختصره، ولكن الكتاب جاء بعد هذا يفيض بالكثير مما لا يتصل بسيرة الرسول، ويعرض الكثير مما لا يؤيده دليل، ويفشو فيه الشعر المنحول، والخبر المفحش، والرواية المنكرة، هذا إلى سوقه على نهج لا يؤلف بين أجزائه نظام، وأيضاً فله أوهام - أغلاط - فيه كما سنبين بعض ذلك فيما يأتي. توفي ببغداد سنة إحدى وخمسين ومائة، وقيل اثنتين وخمسين.
3- الواقدي محمد بن عمر بن واقد مولى بني هاشم: كان الثاني بعد إسحاق في العلم بالمغازي والسير والتواريخ، وكان معاصره مع صغر سنه عنه، وقد لقي الكثيرين من الشيوخ، وروى عنهم، وكان كثير العلم بالتاريخ والحديث، وقد اختلف في تقديره المحدِّثون ما بين معدل ومجرِّح له، ويروى أنه اختلط في آخر عمره . قال فيه البخاري: "منكر الحديث" ولكنهم لا يطعنون في سعة علمه بالمغازي. قال فيه الإمام أحمد بن حنبل: "إنه بصير بالمغازي" على حين قال فيه أيضاً "الواقدي يركب الأسانيد". عني الواقدي بالمغازي والسير بخاصة، والتاريخ الإسلامي بعامة، وكان لا يعرف كثيراً من أمور الجاهلية.
وقد كانت كتبه عمدة للمؤرخين من بعده، ونقلوا منها واقتبسوا، وللواقدي كتاب "التاريخ الكبير" مرتب على السنين، اقتبس منه الطبري في تاريخه كثيراً، وكتاب "الطبقات" ذكر فيه الصحابة والتابعين حسب طبقاتهم، ويظن أن كاتبه ابن سعد قد تأثر به في "طبقاته"، ولم يبق لنا من كتبه إلا كتاب "المغازي" وكان من أكبر المصادر التي اعتمد عليها الطبري في تاريخه، توفي ببغداد سنة سبع ومائتين وقيل تسع.
طبقة أخرى
ثم جاء بعد ذلك طبقة أخرى، من مشاهيرهم:
1- أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري المعَافِري: من مصر، وأصله من البصرة، وله كتاب في "أنساب حِمْير وملوكها" وكتاب في "شرح ما وقع في أشعار السيرة من الغريب" وله الكتاب الذي اشتهر به "السيرة" وهو مختصر لسيرة ابن إسحاق، مع بعض الزيادات، أو التعقبات والتصحيحات، ولئن كانت سيرة ابن إسحاق لم تصلنا بعينها فقد وصلتنا مهذبة على يد ابن هشام.
وقد تلقَّاها عن زياد بن عبد الله البكَّائي(1) (المتوفى سنة 182) عن ابن إسحاق وقد بين ابن هشام في المقدمة منهجه حيال سيرة ابن إسحاق فقال : "وأنا - إن شاء الله - مبتدئ هذا الكتاب بذكر إسماعيل بن إبراهيم، ومن ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولده، وأولادهم لأصلابهم: الأول فالأول من إسماعيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يعرض من حديثهم، وتارك ذكر غيرهم من ولد إسماعيل-على هذه الجهة-للاختصار، إلى حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق مما ليس لرسول الله فيه ذكر، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سبباً لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيراً له، ولا شاهداً عليه-لما ذكرت من الاختصار-، وأشعاراً ذكرها لم أر أحداً من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعضه لم يقر لنا البكائي بروايته، ومستقصٍ- إن شاء الله تعالى - ما سوى ذلك منه بمبلغ الرواية له، والعلم به".
من أجل هذا نُسِيَ ابن إسحاق، وذُكر ابن هشام، فلم يعد يذكر هذا الكتاب في السيرة إلا مقروناً باسم ابن هشام، لا يكاد يذكر ابن إسحاق إلى جانبه، وهذا بالنسبة للمتأخرين، أما المتقدمون فلا يذكرون إلا ابن إسحاق، وكانت وفاة ابن هشام سنة ثماني عشرة ومائتين.
وقد شرح هذه السيرة شرحاً يدل على تبحُّر في العلم، وتضلُّع في علم اللغة والأدب والأخبار، الإمامُ أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي الأندلسي، المولود سنة ثمان وخمسمائة والمتوفى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، في كتابه القيم "الروض الأُنُف" وكان - رحمه الله - إلى جانب علمه معروفاً بالصلاح، والتقوى، والورع.
3- محمد بن سعد تلميذ الواقدي وكاتبه: يدوَّن له كتبه وأخباره، ومن أجل هذا لقب "بكاتب الواقدي" ولد بالبصرة سنة ثمان وستين ومائة، وآباؤه موال للحسن بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس، وأجلُّ كتبه "الطبقات الكبير" في ثمانية أجزاء، وقد خصَّص الجزء الأول والثاني من كتابه.
________________________________
(1)هو أبو محمد زياد بن عبد الله البكائي شيخ ابن هشام، روى عنه البخاري في كتاب الجهاد، وخرَّج له مسلم في مواضع من كتابه، وكفى بهما مزكِّيَيْن، وموثقين.
لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه، وخصَّص الأجزاء الستة الأخرى لأخبار الصحابة والتابعين مرتباً لهم على حسب الأمصار، ثم رتَّب علماء كل مصر حسب شهرتهم وزمنهم، وقد حظي ابن سعد بثناء بعض المحدِّثين، قال فيه الخطيب البغدادي : "محمد بن سعد عندنا من أهل العدالة، وحديثه يدل على صدقه، فإنه يتحرَّى في كثير من رواياته" وهو أحد شيوخ المؤرخ الكبير البلاذري، وتوفي ببغداد سنة ثلاثين ومائتين.
وممن عرف في التأليف في المغازي من طبقة تلي هؤلاء :
سعد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص بن أبي أُحيحة، أبو عثمان البغدادي: ثقة ربما أخطأ، من العاشرة، روى له البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي. وقد قال الحافظ الذهبي في ترجمة أبيه يحيى بن سعيد بن أبان : "المحدِّث الثقة، وحدَّث عنه ابنه سعيد بن يحيى صاحب المغازي، وأحمد بن حنبل" وكانت وفاته سنة تسع وأربعين ومائتين.
موقع العرب وأقوامها
إن السيرة النبوية - على صاحبها الصلاة والسلام - عبارة في الحقيقة عن الرسالة التي حملها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى المجتمع البشري، وأخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، ومن عبادة العباد إلى عبادة اللَّه. وإذن فلا يمكن إحضار صورتها الرائعة بتمامها إلا بعد المقارنة بين خلفيات هذه الرسالة وآثارها. ونظراً إلى ذلك نقدم فصلاً عن أقوام العرب وتطوراتها قبل الإِسلام، وعن الظروف التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم .
موقع العرب
العرب لغة الصحاري والقفار، والأرض المجدبة التي لا ماء فيها ولا نبات. وقد أطلق هذا اللفظ منذ أقدم العصور على جزيرة العرب.
كما أطلق على قوم قطنوا تلك الأرض، واتخذوها موطناً لهم.
وجزيرة العرب يحدها غرباً البحر الأحمر وشبه جزيرة سيناء، وشرقاً الخليج العربي وجزء كبير من بلاد العراق الجنوبية، وجنوباً بحر العرب الذي هو امتداد لبحر الهند، وشمالاً بلاد الشام وجزء من بلاد العراق على اختلاف في بعض هذه الحدود، وتقدر مساحتها ما بين مليون ميل مربع إلى مليون وثلاثمائة ألف ميل مربع.
والجزيرة لها أهمية بالغة من حيث موقعها الطبيعي والجغرافي، فأما باعتبار وضعها الداخلي فهي محاطة بالصحاري والرمال من كل جانب، ومن أجل هذا الوضع صارت الجزيرة حصناً منيعاً لا يسمح للأجانب أن يحتلوها ويبسطوا عليها سيطرتهم ونفوذهم. ولذلك نرى سكان الجزيرة أحراراً في جميع الشؤون منذ أقدم العصور، مع أنهم كانوا مجاورين لإِمبراطوريتين عظيمتين لم يكونوا يستطيعون دفع هجماتهما لولا هذا السد المنيع.
وأما بالنسبة إلى الخارج فإنها تقع بين القارات المعروفة في العالم القديم. وتلتقي بها براً وبحراً. فإن ناحيتها الشمالية الغربية باب للدخول في قارة أفريقية، وناحيتها الشمالية الشرقية مفتاح لقارة أوروبا، والناحية الشرقية تفتح أبواب العجم والشرق الأوسط والأدنى، وتفضي إلى الهند والصين، وكذلك تلتقي كل قارة بالجزيرة بحراً، وترسي سفنها وبواخرها على ميناء الجزيرة رأساً.
ولأجل هذا الوضع الجغرافي كان شمال الجزيرة وجنوبها مهبطاً للأمم ومركزاً لتبادل التجارة، والثقافة، والديانة، والفنون.